استهداف تكيات الطعام بغزة.. إمعانٌ في التجويع والقتل

استهداف تكيات الطعام بغزة.. إمعانٌ في التجويع والقتل
تقارير وحوارات

غزة/ دعاء الحطاب:
في مشهدٍ بات جزءاً من الحياة اليومية بقطاع غزة، يتزاحم ألاف المواطنين بصفوف متراصة أمام تكيات ومراكز توزيع الطعام الخيرية لساعاتٍ طويلة، أملاً بالحصول على قدرٍ من الطعام، لكن مع استمرار حرب الإبادة باتت هدفًا مباشرًا لصواريخ الاحتلال الإسرائيلي، في سياسة ممنهجة تهدف إلى تجويع الشعب الفلسطيني في ظل شح المواد الغذائية نتيجة تشديد الحصار الإسرائيلي على القطاع.
وتختلط في هذه الطوابير مشاعر المواطنين بين الحزن والإحباط والتعب والخوف من العودة الى أُسرهم بأوعية فارغة، أو عدم العودة جراء الاستهداف المتكرر لتكيات الطعام في قطاع غزة، فما يُحصلونه من طعام حتى وإن كان قليلاً يعني لهم الحياة والنجاة من الموت جوعاً، خاصةً العائلات الكبيرة والفقيرة التي تعتمد على التكيات كعنصر أساسي في غذائها اليومي.
وباتت التكيات الخيرية المصدر الوحيد لتوفير الطعام لعشرات ألاف الأسر، في وقتٍ نفدت فيه معظم السلع الغذائية الأساسية من أسواق القطاع بما في ذلك الدقيق، السكر، زيت القلي، الأرز، الفواكه والخضروات، عدا عن نفاد اللحوم والدواجن والأسماك منذ أكثر من شهر.
وتضاعفت أسعار السلع التي تبقى منها كميات محدودة في الأسواق بشكلٍ كبير، حيث بات المواطنون غير قادرين على توفير أدنى احتياجات أسرهم من المواد الغذائية الأساسية، مما دفع الكثيرين منهم للتكيات التي باتت عرضة للاستهداف الإسرائيلي أيضًا.
ووفق معطيات نشرها المكتب الإعلامي الحكومي بغزة، استهدف جيش الاحتلال "الإسرائيلي" بشكل مباشر 26 تكية طعام في القطاع، كانت تقدم وجبات للنازحين والجائعين، كما وقصف الاحتلال أكثر من 37 مركز توزيع مساعدات، منذ بدء حرب الإبادة بـ 7 أكتوبر 2023، حتى 28 مارس 2025.1
ويأتي استهداف تكيات الطعام، مع استمرار اغلاق الاحتلال للمعابر الحدودية، منذ 2 مارس 2025، ومنع إدخال المساعدات الإغاثية، بما فيها الدقيق والمواد الغذائية، والذي ترتب عليه توقف جميع المخابز العاملة في قطاع غزة عن العمل منذ 9 أيام، ما ينذر بمجاعة حقيقية تهدد حياة أكثر من مليوني فلسطيني يعتمدون على المساعدات الغذائية.
" أحسن من جوع"
"كل يوم فصوليا وأرز، أو بازيلاء أو معكرونة، لكن الحمد الله أحسن ما نموت جوع"، هكذا بدأ الطفل ياسر غراب (12عاما) حديثه لـ "الاستقلال"، مُعبراً عن ملله الخجول من تكرار الطعام ذاته كُل ثلاثة أيام.
ويقول غراب مشيراً بحلته:" أنا آخذ الطبيخ وأخويا الرز"، ثم نعود لخيمتنا المُقامة بداخل ملعب الشقاقي بمخيم النصيرات وسط قطاع غزة.
بدموعٍ مُتحجرة بعينية، يُضيف:" كان أبي دائما يُحضر لنا أفضل الطعام والشراب، لكن بسبب الحرب لم يعد بمقدوره فعل أي شيء"، مُردفاً:" لو لم نحصل على الطعام من التكية ننام جوعانين".
وأشار الطفل غراب إلى أنه بات مؤخراً يتخوف كثيراً من الذهاب إلى تكيات الطعام جراء عمليات استهدافها المتكرر من قبل طائرات الاحتلال والتي أوقعت عشرات الشهداء والجرحى وخاصة من فئة الأطفال.
"يريدون قتلنا جياع"
فيما يقول المواطن أبو نور سالم (40عاما) :" الوضع بغزة صعب جداً بالنسبة لنا، لا يوجد طعام ولا خضروات ولا فواكه ولا لحوم، حتى لقمة الخبز حرمونا اياها".
ويتابع سالم بحسرة لـ "الاستقلال": "نعتمد في غذائنا بشكل أساسي على التكية، نُحضر ما يكفي لوجبتي الغداء والعشاء، كي لا نموت جوعاً، لكن للأسف حتى التكيات أصبحت مكاناً للموت بسبب استهداف الطائرات لها"، مستدركاً:" يريدون قتلنا جياع، ويريدون قصف كُل ما من يُطعمنا".
ويُضيف:" حياتنا صارت عبارة عن حلبة سباق، وين في تكية بنطلع نجري حتى لو على بعد نصف كيلو، واحنا ونصيبنا يا بنرجع بالأكل إلى أطفالنا يا بنموت من قصف الاحتلال".
ولا تكفي حلة صغيرة من الطبيخ والأرز، عائلة "سالم" المكونة من عشرة أفراد، مما يضطرون إلى الاصطفاف مُتفرقين في طابور التكية رغم مشاعر الخوف الكبير الذي يسيطر عليهم، لكي يستطيعوا جلب ما يكفي يومهم من الطعام.
تعمد مباشر
وبدوره أكد طارق أبو عرمانه المسؤول عن التكية اليابانية في مواصي خانيونس جنوب القطاع، أن تكيات الطعام بغزة أصبحت بمثابة شريان الحياة لعشرات ألاف النازحين الفارين من الغارات الإسرائيلية، خاصة في ظل ما يعاينه القطاع من حصار خانق، واستمرار حرب التجويع.
وقال أبو عرمانه لـ "الاستقلال":" أن المواطنين في غزة باتوا يعتمدون بشكل أساسي على وجبات التكية اليومية لسد رمق أُسرهم، في ظل اغلاق المعابر ومنع دخول المساعدات الانسانية، وشٌح السلع والمواد الغذائية بالأسواق وارتفاع اسعار المتوفر منها، بالإضافة لانعدام غاز الطهي وارتفاع اسعار الحطب".
وأضاف:" الوضع الانساني في القطاع كارثي للغاية، والمواطنون اليوم بأمس الحاجة الى وجبات التكية لأنها أملهم الوحيد للبقاء في ظل الحصار والقصف"، مستدركاً:" كل وجبه نقدمها قد تعني حياة لعائلة بأكملها، لذلك نعمل بكل ما أوتينا من قوة لتوفير وجبات ساخنة تحفظ كرامة الناس وتخفف عنهم معاناة الجوع".
وتواجه التكيات الخيرية بالقطاع تحديات لا تنتهي، لكن أبرزها هو " النقص الحاد في المواد الأساسية كالخضار واللحوم، وغاز الطهي، وحتى المياه أحياناً"، بالإضافة الى الاستهداف الممنهج للتكيات من قبل قوات الاحتلال، سواء عبر القصف المباشر أو عبر منع وصل الإمدادات، مما يُضاعف معاناة المواطنين ويضعنا أمام مسؤولية أكبر لمواصلة العمل رغم المخاطر. وفق أبو عرمانه.
وأوضح أن الاحتلال يتعمد الاستهداف المباشر للتكيات الخيرية التي تعمل على تقديم الطعام للنازحين، بهدف الإمعان بسياسة التجويع الممنهج التي يتبعها منذ بدأ حرب الابادة بالسابع من اكتوبر عام 2023م، مُضيفاً:" أن الاستهداف يُسبب لنا أضرار مادية كبيرة وتؤثر على عدم شعورنا بالأمان داخل العمل فقد فقدنا الكثير من الزملاء ومعدات ومنشآت كاملة في بعض الأحيان".

وشدد على أن سياسيات الاحتلال العنجهية لن تُثنينهم عن مواصلة عملهم في اغاثة الناس من براثين الجوع، مؤكداً أن التكية لم تعد مُجرد مشروع خيري، بل ضرورة حياة وواجباً دينياً ووطنياً لتعزيز صمود أبناء شعبنا ونصرتهم.
ووجهه أبو عرمانه رسالة لأبناء شعبنا مفادها:" سنبقي معكم، ولن نخذلكم، سنستمر في تقديم الطعام، والوقف الى جانبكم مهما كانت الظروف وحتى تنجلي هذه الغمة بإن الله".

التعليقات : 0

إضافة تعليق